قرية بوري
بوري هي إحدى قرى البحرين المجيدة، هي قرية ذكرها سماحة المرحوم العلم إبراهيم المبارك رحمة الله الواسعة عليه في كتابه "بلدان البحرين على حروف المعجم" وهذا الكتاب يمكن الحصول على نسخة منه من موقع سماحة الفقيه حميد المبارك دام عزه ومجده.
وقد ذكر المرحوم المبارك رضوان الله عليه اسم بوري وقال في صرف الكلمة: "بضم الباء وسكون الواو والراء المكسورة مخففة والنسبة إليها كذلك." ولم يزد على ذلك بشيء.
أيضاُ ذكر شاعر أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام المشهور الشيخ أبو البحر جعفر الخطي رضوان الله عليه بوري في قصيدة له مشهورة هي آية في البلاغة وقمة عالية شامخة في الحنين والشوق والوله نحو البحرين الوطن الذي ابتعد واغترب عنه الشاعر فترة من الزمن في إيران. يعرج الشيخ الخطي عليه الرحمة في مستهل قصيدته على معالم وربوع بوري ويتذكرها ويستحضر سروره عند مروره بها، ومكثه فيها مدة غير قصيرة. ثم يذكر علاقاته بأهلها وعلاقات بإخوانه في البحرين بأجمعها ومدى شوقه لهم فيقول في قصيدته هذه(2) :
عج بالمطي على معالم بــــوري *** لمحل لذاتي وربع سروري
وأطل بها عنى الوقوف فما أرى *** شوقاً يحركني لها بقصـــير
هذه القصيدة مثبتة في كتاب "أعيان الشيعة" للمرحوم السيد محسن الأمين قدس سره عندما مر بشخصية الشيخ أبو البحر جعفر الخطي عليه الرحمة.
قريتنا "بوري" لا نعرف لها اسماً سواه، والسؤال المُلح الذي طالما قرع أذهان الكثيرين من أبناء القرية ومن جيرانها بل ومن بلاد أخرى إذ يستغربون التسمية ويسألون عن سببه عند سماعهم إياها.
وهم يسألون ويرومون جواباً على سؤال: ما معنى بوري؟ ما المقصود به؟ هل اللفظة عربية مبينة أم أعجمية مشينة؟
إليك الجواب من أكثر من كتاب هو عمدة المصنفات في لغة الأعراب، أعني كتاب "العين" للمولى الموالي الإمامي العالي الخليل بن أحمد الفراهيدي عليه الرحمة والرضوان والإنعام بالروح والريحان والحور المقصورات بالجنان إذ مضمون قوله هو: بوري وبورياء هي النسيج المنسوج من خوص النخيل والمشغولات اليدوية المعمولة منه. وفي الكتاب الآخر "القاموس المحيط" للفيروزآبادي الزيدي المذهب والمشرب رحمه الله نفس هذا المعنى. وقد أوضح بكل جلاء وبلا غطاء صاحب مختار الصحاح فقال: (وقال الأصمعي البورياء بالفارسية وهو بالعربية باري، وبوري، وباريةبتشديد الياء في الكل) ولا أكثر صراحة من عروبية (بوري) بعد هذا.
الدراسات السابقة:
ولكن لم يذكر صاحب "معجم البلدان" ياقوت الحموي ولا غيره-فيما أعلم-من المعاجم عن الأماكن تسمية بوري التي هي إحدى قرى البحرين الباقية من 346 قرية (كان عدد قرى البحرين بعدد أيام السنة).
ولم يذكر الشيخ محمد علي التاجر ولم يتعرض لتسمية بوري في كتابه "عقد اللآل في تاريخ أوال" وقد تعرض فيه لجملة من أسماء القرى.
وكذلك لم يعرض الباحث التاريخي علي أكبر بوشهري إلى تسميتها في محاضرة له في نادي جدحفص وقد تناول فيها جذور أسماء قرى ومدن ومناطق البحرين. ولم أحضر هذه المحاضرة فقد كنت خارج البحرين، ولكن قرأت مقالاً هو قراءة نقدية لمحاضرة بوشهري ولم يذكر فيها أي شيء عن بوري.
ولعله في زمانه هو لم يُطلق الاسم على القرية، أو لم يصله خبرها لبعده عنها وتعسر السفر لها فهي في جزيرة البحرين، ولعله لعدم اشتهار التسمية في ذلك الزمان فالقوم يسيغون المشهور أكثر من المغمور وإن كان من المغمور من هو أعلى وأجل وأغلى وأفضل وأولى وأكمل أعني مولاي وسيدي ونور بصيرتي وهدايتي سيد العالم الموتور عجل الله له الظهور.
وحديثاً صدر كتاب "دراسة لغوية وتاريخية لبعض مناطق مملكة البحرين" لمؤلفه فاضل ناصر من مكتبة فخراوي، ولكن هذا الجهد المشكور من المؤلف لم يتناول قريتنا "بوري".
والغريب إن المؤلف قد رجع إلى ديوان شعر الشيخ جعفر الخطي السابق ذكره لقصيدة ذكر فيها قرية "توبلي" ولم يردف هذا بالحديث عن قرية "بوري" على شهرة القصيدة التي مرت عليك سابقاً وهي من روائع شعر الشيخ الخطي رضوان الله عليه.
ولنا أن نحرز السبق بإرجاع سبب تسمية "بوري" على المعنى اللغوي الظاهر في ما وراء التسمية هذه، وما يبدو من التأمل في هذه اللفظة هو أنها عربية مبينة وفصيحة متينة. وإذن فقد سُميت –على ما نحتمل نحن-بوري لاشتغال غالب أهلها واحترافهم ومزاولتهم خصف الخوص ونسجه في مشغولات عدة خاصة وأن أرض القرية خصبة معطاءة وفيها من العيون معين يعين. ولعل أهلها اشتهروا بهذه الصناعة حتى كان أن سُميت الأرض التي سكنوها وعمروها وزرعوها باسم صناعتهم، وهذا كثير في اللغة ومستساغ عند الألباب الفطنة. فالذباب إنما سُمي بفعله وهو الذب أي الإتيان مرة بعد أخرى وهكذا.
نعم، ولا يقدح أو يجرح في معناها حالة النشاز الآن عن روح اللغة العربية إذ تشذ الأسماع وتنفر الطباع عن مثل هذا الكلام وذلك لنفور الكثير من المجتمع عن اللغة العربية وركونهم للهجة العامية وإن كانت العامية حاوية لعدة وفيرة من معانٍ عربية فصيحة صحيحة ذات مغزى ومعنى هما في القمة من البلاغة والبيان والبديع يعرفها أهل هذه الفنون.
لا يقدح هذا فيما قلناه وارتأيناه من الاسم ومعناه الذي قدمناه وبنّنا فيه الاكتناه. (ونستطرد فنقول فائدة خالدة)
وذلك لأن العقل الجمعي(3) لا سلطة له ولا حجة وخاصة بلحاظ وتأمل مقال آية الله حميد المبارك-حفظه الله تعالى وتبارك ومتعنا بنوره وحضوره-في أحد مجالس محرم الحرام إذ قال ما مؤداه ومعناه: العقل الجمعي يحدد العقل ويسجنه ويعطله ويعيقه عن التفكير الحر" وهذا هو نفس قول الملا صدر المتألهين عليه رحمة رب العالمين إذ يقول ما مضمونه: أن العقل وليد البيئة الجغرافية والاجتماعية التي يعيشها الفرد ولا يرقى للتوحيد العملي الذي هو غااية آمال العارفين إلا بكسر قيده وتحرير رقبته.
ومما يدعم رأينا هذا في سبب التسمية هو ما نجده عند غير واحدة من نسائنا في القرية جداتنا وعماتنا الكبار-آمنهم الله في دار القرار ومحل الأخيار ومجاورة الأبرار الأطهار من عترة طه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-كمهنة أو تسلية أو هواية على اختلاف المقام في خصف الخوص من النخلة (هذه الشجرة المباركة التي هي عمتنا نحن بني آدم على نبينا وآله وعليه السلام لأنها نزلت مع أبينا آدم عليه السلام من الجنة) وتصييره وتحويله سفرة طعام أو حاوية رطب وغيرها من منتجات يدوية. وهذا بحسب علم الإنسان بفرعه الاجتماعي والثقافي(4) عبارة عن ترسب وبقايا وآثار لتلك الصناعة وبالتالي لهذه التسمية "بوري" ومن باب تسمية الشيء بما يكثر فعله وبما يشتهر من وصفه.
إذن، هي اسم على مسمى، وقد ذكرها ووقف على أطلالها كعادة الشعراء شيخ شعراء البحرين وزين علماء الأئمة الطاهرين أبو البحر جعفر الخطي رحمه الله ورفعه مكاناً علياً في قصيدته الرائعة الذائعة المذكورة في ترجمته من كتاب "أعيان الشيعة" لآية الله السيد محسن الأمين عليه رحمة رب العالمين والتي مطلعها:
عج بالمطي على معالم بوري **** لمحل لذاتي وربع سروري
فلبوري معالم وآثار وأعيان.
ولا يفوتني ذكر رواية تثير الأحزان وتحرق الجنان سمعتها من أحد الخطباء(5) أن زين العباد السجاد عليه الصلاة والسلام لما أراد دفن جسد أبيه السبط الشهيد عليه الصلاة والسلام حمله على بورياء (يعني بوري فالبورياء لغة فيها كما مر سابقاً) من الخوص. واإماماه واشهيداه وامصيبتاه
وأقول لعله جاء بالبورياء من بني أسد(6) (الذين رأت نساؤهم تلك الأجسام المقطعة الموزعة وجئن لرجالهم مستنهضات لدفنها ويقول المولى الأعلى الملا عطية الجمري طاب ثراه وكانت الجنة مثواه وباللهجة الدارجة وعلى لسان هاتيك النسوة الأسديات: قلت شيمكم والحمية يا مسلمين وين الذي يحضر يباري هالمطاعين) وهم ساكنو أطراف كربلاء والغاضريه والشفيه وقد ساعدوا الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام على دفن أولئك الكرام طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم.
وقد أجاد وساد وبلغ المراد الملا عطية الجمري فخر البلاد إذ يقول حاكياً هذه الحادثة:
الكافور تربه والغسل دمه الجـــــــاري
والكفن فصل له أبو محمد بـــــــــواري
والقبر قلب اخته الخذوها بجمل عـاري
وقلب الذي قضّى حياته في بـــــــــوكيه
والبواري جمع بوري وبورياء كما في "العين" للفراهيدي.
وله الحمد السرمد، والصلاة والسلام على رسوله محمد.
(1) لعل أصل قرية هو القرى بكسر القاف فيها أي الضيافة ومن المعروف عند العرب قديماً نار القرى بكسر القاف ويقول مصباح السداد الإمام السجاد عليه الصلاة والسلام في مناجاة الراجين "ومن الذي التمس قراك فما قريته" ويشير إلى هذا المعنى ما ورد في سورة الكهف الآية 77 عن قصة الكليم والخضر عليهما السلام عندما استطعما أهل قرية ما فأبوا أن يضيفوهما.
(2) لقد عرضت ما وجدته من أبيات هذه القصيدة من كتاب "أعيان الشيعة" على أحد السادة العلماء والذي هو أحد الشعراء لضبط كلماتها نحوياً وصرفياً إذ إنها قد تكون عرضة للتصحيف الناتج بسبب النقل من مصدر قديم إلى جديد. وقد أبدى هذا السيد العالم الشاعر إعجابه لأكثر من مورد ومعنى صاغه الشاعر بأسلوب بليغ فريد من نوعه وجديد في فرعه.
(3) هو مصطلح عند علماء الاجتماع يُقصد به: اجتماع جماعة كبيرة على فكرة أو رأي ومجاراة الفرد الواحد من الأفراد لهذا الرأي وتلك الفكرة لا لصحتها أو لاقتناعه بها ولكن بفعل قوة المجموعة والجماعة وخشيته من تسقيطهم وإقصائهم وتشنيعهم ومعاتبتهم، فلا يفكر ويجمد على رأيهم.
(4) يسمى باللغة الإنجليزية social & cultural anthropology
(5) لعله على ما في البال، السيد محمد باقر الفالي أو السيد منير الخباز داما مؤيدَين مسددَين
(6) وقد هاجر بعض الأسديين إلى البحرين ولعل بوري وأهلها منهم أو لعل أهل بوري عرفوا صناعة النسيج من الخوص منهم .